سورة الحجرات - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الحجرات)


        


{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1)}
في بيان حسن الترتيب وجوه:
أحدها: أن في السورة المتقدمة لما جرى منهم ميل إلى الامتناع مما أجاز النبي صلى الله عليه وسلم من الصلح وترك آية التسمية والرسالة وألزمهم كلمة التقوى كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم على سبيل العموم: لا تقدموا بين يدي الله ورسوله، ولا تتجاوزوا ما يأمر الله تعالى ورسوله الثاني: هو أن الله تعالى لما بيّن محل النبي عليه الصلاة والسلام وعلو درجته بكونه رسوله الذي يظهر دينه وذكره بأنه رحيم بالمؤمنين بقوله: {رَّحِيمٌ} [التوبة: 128] قال لا تتركوا من احترامه شيئاً لا بالفعل ولا بالقول، ولا تغتروا برأفته، وانظروا إلى رفعة درجته الثالث: هو أن الله تعالى وصف المؤمنين بكونهم أشداء ورحماء فيما بينهم راكعين ساجدين نظراً إلى جانب الله تعالى، وذكر أن لهم من الحرمة عند الله ما أورثهم حسن الثناء في الكتب المتقدمة بقوله: {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التوراة وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجيل} [الفتح: 29] فإن الملك العظيم لا يذكر أحداً في غيبته إلا إذا كان عنده محترماً ووعدهم بالأجر العظيم، فقال في هذه السورة لا تفعلوا ما يوجب انحطاط درجتكم وإحباط حسناتكم ولا تقدموا. وقيل في سبب نزول الآية وجوه: قيل نزلت في صوم يوم الشك، وقيل نزلت في التضحية قبل صلاة العيد، وقيل نزلت في ثلاثة قتلوا اثنين من سليم ظنوهما من بني عامر، وقيل نزلت في جماعة أكثروا من السؤال وكان قد قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وفود والأصح أنه إرشاد عام يشمل الكل ومنع مطلق يدخل فيه كل إثبات وتقدم واستبداد بالأمر وإقدام على فعل غير ضروري من غير مشاورة وفي التفسير مسائل:
المسألة الأولى: قوله تعالى: {لاَ تُقَدِّمُواْ} يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون من التقديم الذي هو متعد، وعلى هذا ففيه وجهان:
أحدهما: ترك مفعوله برأسه كما في قوله تعالى: {يحيي ويميت} وقول القائل فلان يعطي ويمنع ولا يريد بهما إعطاء شيء معين ولا منع شيء معين وإنما يريد بهما أن له منعاً وإعطاء كذلك هاهنا، كأنه تعالى يقول لا ينبغي أن يصدر منكم تقديم أصلاً والثاني: أن يكون المفعول الفعل أو الأمر كأنه يقول: {لاَ تُقَدِّمُواْ} يعني فعلاً {بَيْنَ يَدَيِ الله وَرَسُولِهِ} أو لا تقدموا أمراً الثاني: أن يكون المراد {لاَ تُقَدِّمُواْ} بمعنى لا تتقدموا، وعلى هذا فهو مجاز ليس المراد هو نفس التقديم بل المراد لا تجعلوا لأنفسكم تقدماً عند النبي صلى الله عليه وسلم يقال فلان تقدم من بين الناس إذا ارتفع أمره وعلا شأنه، والسبب فيه أن من ارتفع يكون متقدماً في الدخول في الأمور العظام، وفي الذكر عند ذكر الكرام، وعلى هذا نقول سواء جعلناه متعدياً أو لازماً لا يتعدى إلى ما يتعدى إليه التقديم في قولنا قدمت زيداً، فالمعنى واحد لأن قوله: {لاَ تُقَدِّمُواْ} إذا جعلناه متعدياً أو لازماً لا يتعدى إلى ما يتعدى إليه التقديم في قولنا قدمت زيداً، فتقديره لا تقدموا أنفسكم في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم أي لا تجعلوا لأنفسكم تقدماً ورأياً عنده، ولا نقول بأن المراد لا تقدموا أمراً وفعلاً، وحينئذ تتحد القراءتان في المعنى، وهما قراءة من قرأ بفتح التاء والدال وقراءة من قرأ بضم التاء وكسر الدال، وقوله تعالى: {بَيْنَ يَدَيِ الله وَرَسُولِهِ} أي بحضرتهما لأن ما بحضرة الإنسان فهو بين يديه وهو ناظر إليه وهو نصب عينيه وفي قوله: {بَيْنَ يَدَيِ الله وَرَسُولِهِ} فوائد: أحدها: أن قول القائل فلان بين يدي فلان، إشارة إلى كون كل واحد منهما حاضراً عند الآخر مع أن لأحدهما علو الشأن وللآخر درجة العبيد والغلمان، لأن من يجلس بجنب الإنسان يكلفه تقليب الحدقة إليه وتحريك الرأس إليه عند الكلام والأمر، ومن يجلس بين يديه لا يكلفه ذلك، ولأن اليدين تنبئ عن القدرة يقول القائل هو بين يدي فلان، أي يقلبه كيف شاء في أشغاله كما يفعل الإنسان بما يكون موضوعاً بين يديه، وذلك مما يفيد وجوب الاحتراز من التقدم، وتقديم النفس لأن من يكون كمتاع يقلبه الإنسان بيديه كيف يكون له عنده التقدم.
وثانيها: ذكر الله إشارة إلى وجوب احترام الرسول عليه الصلاة والسلام والانقياد لأوامره، وذلك لأن احترام الرسول صلى الله عليه وسلم قد يترك على بعد المرسل وعدم اطلاعه على ما يفعل برسوله فقال: {بَيْنَ يَدَيِ الله} أي أنتم بحضرة من الله تعالى وهو ناظر إليكم، وفي مثل هذه الحالة يجب احترام رسوله.
وثالثها: هو أن هذه العبارة كما تقرر النهي المتقدم تقرر معنى الأمر المتأخر وهو قوله: {واتقوا} لأن من يكون بين يدي الغير كالمتاع الموضوع بين يديه يفعل به ما يشاء يكون جديراً بأن يتقيه، وقوله تعالى: {واتقوا الله} يحتمل أن يكون ذلك عطفاً يوجب مغايرة مثل المغايرة التي في قول القائل لا تتم واشتغل، أي فائدة ذلك النهي هو ما في هذا الأمر، وليس المطلوب به ترك النوم كيف كان، بل المطلوب بذلك الاشتغال فكذلك لا تقدموا أنفسكم ولا تتقدموا على وجه التقوى، ويحتمل أن يكون بينهما مغايرة أتم من ذلك، وهي التي في قول القائل احترم زيداً واخدمه، أي ائت بأتم الاحترام، فكذلك هاهنا معناه لا تتقدموا عنده وإذا تركتم التقدم فلا تتكلوا على ذلك فلا تنتفعوا بل مع أنكم قائمون بذلك محترمون له اتقوا الله واخشوه وإلا لم تكونوا أتيتم بواجب الاحترام وقوله تعالى: {إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} يؤكد ما تقدم لأنهم قالوا آمنا، لأن الخطاب يفهم بقوله: {يا أيها الذين آمنوا} فقد يسمع قولهم ويعلم فعلهم وما في قلوبهم من التقوى والخيانة، فلا ينبغي أن يختلف قولكم وفعلكم وضمير قلبكم، بل ينبغي أن يتم ما في سمعه من قولكم آمنا وسمعنا وأطعنا وما في علمه من فعلكم الظاهر، وهو عدم التقدم وما في قلوبكم من الضمائر وهو التقوى.


{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2)}
[الحجرات: 1] نهي عن فعل ينبئ عن كونهم جاعلين لأنفسهم عند الله ورسوله بالنسبة إليهما وزناً ومقداراً ومدخلاً في أمر من أوامرهما ونواهيهما، وقوله: {لاَ تَرْفَعُواْ} نهي عن قول ينبئ عن ذلك الأمر، لأن من يرفع صوته عند غيره يجعل لنفسه اعتباراً وعظمة وفيه مباحث:


البحث الأول: ما الفائدة في إعادة النداء، وما هذا النمط من الكلامين على قول القائل: {يا أيها الذين ءامَنُواْ لاَ تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَىِ الله} [الحجرات: 1]، و{لاَ تَرْفَعُواْ أصواتكم}؟ نقول في إعادة النداء فوائد خمسة: منها أن يكون في ذلك بيان زيادة الشفقة على المسترشد كما في قول لقمان لابنه {يابنى لاَ تُشْرِكْ بالله} [لقمان: 13] {يابنى إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ} [لقمان: 16]، {يا بني أقم الصلاةَ} [لقمان: 17] لأن النداء لتنبيه المنادى ليقبل على استماع الكلام ويجعل باله منه، فإعادته تفيد ذلك، ومنها أن لا يتوهم متوهم أن المخاطب ثانياً غير المخاطب أولاً: فإن من الجائز أن يقول القائل يا زيد افعل كذا وقل كذا يا عمرو، فإذا أعاده مرة أخرى، وقال يا زيد قل كذا، يعلم من أول الكلام أنه هو المخاطب ثانياً أيضاً ومنها أن يعلم أن كل واحد من الكلامين مقصود، وليس الثاني تأكيداً للأول كما تقول يا زيد لا تنطق ولا تتكلم إلا بالحق فإنه لا يحسن أن يقال يا زيد لا تنطق يا زيد لا تتكلم كما يحسن عند اختلاف المطلوبين، وقوله تعالى: {لاَ تَرْفَعُواْ أصواتكم} يحتمل وجوهاً: أحدها: أن يكون المراد حقيقته، وذلك لأن رفع الصوت دليل قلة الاحتشام وترك الاحترام، وهذا من مسألة حكمية وهي أن الصوت بالمخارج ومن خشي قلبه ارتجف وتضعف حركته الدافعة فلا يخرج منه الصوت بقوة، ومن لم يخف ثبت قلبه وقوي، فرفع الهواء دليل عدم الخشية ثانيها: أن يكون المراد المنع من كثر الكلام لأن من يكثر الكلام يكون متكلماً عن سكوت الغير فيكون في وقت سكوت الغير لصوته ارتفاع وإن كان خائفاً إذا نظرت إلى حال غيره فلا ينبغي أن يكون لأحد عند النبي صلى الله عليه وسلم كلام كثير بالنسبة إلى كلام النبي صلى الله عليه وسلم لأن النبي عليه الصلاة والسلام مبلغ، فالمتكلم عنده إن أراد الإخبار لا يجوز، وإن استخبر النبي عليه السلام عما وجب عليه البيان، فهو لا يسكت عما يسأل وإن لم يسأل، وربما يكون في السؤال حقيدة برد جواب لا يسهل على المكلف الإتيان به فيبقى في ورطة العقاب ثالثها: أن يكون المراد رفع الكلام بالتعظيم أي لا تجعلوا لكلامكم ارتفاعاً على كلام النبي صلى الله عليه وسلم في الخطاب كما يقول القائل لغيره أمرتك مراراً بكذا عندما يقول له صاحبه مرني بأمر مثله، فيكون أحد الكلامين أعلى وأرفع من الآخر، والأول أصح والكل يدخل في حكم المراد، لأن المنع من رفع الصوت لا يكون إلا للاحترام وإظهار الاحتشام، ومن بلغ احترامه إلى حيث تنخفض الأصوات عنده من هيبته وعلو مرتبته لا يكثر عنده الكلام، ولا يرجع المتكلم معه في الخطاب، وقوله تعالى: {وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بالقول كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} فيه فوائد:
إحداها: أن بالأول حصل المنع من أن يجعل الإنسان كلامه أو صوته أعلى من كلام النبي صلى الله عليه وسلم وصوته، ولقائل أن يقول فما منعت من المساواة فقال تعالى: ولا تجهروا له كما تجهرون لأقرانكم ونظرائكم بل اجعلوا كلمته عليا.
والثانية: أن هذا أفاد أنه لا ينبغي أن يتكلم المؤمن عند النبي عليه السلام كما يتكلم العبد عند سيده، لأن العبد داخل تحت قوله: {كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} لأنه للعموم فلا ينبغي أن يجهر المؤمن للنبي صلى الله عليه وسلم كما يجهر العبد للسيد وإلا لكان قد جهر له كما يجهر بعضكم لبعض، لا يقال المفهوم من هذا النمط أن لا تجعلوه كما يتفق بينكم، بل تميزوه بأن لا تجهروا عنده أبداً وفيما بينكم لا تحافظون على الاحترام، لأنا نقول ما ذكرنا أقرب إلى الحقيقة، وفيه ما ذكرتم من المعنى وزيادة، ويؤيد ما ذكرنا قوله تعالى: {النبى أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6] والسيد ليس أولى عند عبده من نفسه حتى لو كانا في مخمصة ووجد العبد ما لو لم يأكله لمات لا يجب عليه بذله لسيده، ويجب البذل للنبي صلى الله عليه وسلم، ولو علم العبد أن بموته ينجو سيده لا يلزمه أن يلقى نفسه في التهلكة لإنجاء سيده، ويجب لإنجاء النبي عليه الصلاة والسلام، وقد ذكرنا حقيقته عند تفسير الآية، وأن الحكمة تقتضي ذلك كما أن العضو الرئيس أولى بالرعاية من غيره، لأن عند خلل القلب مثلاً لا يبقى لليدين والرجلين استقامة فلو حفظ الإنسان نفسه وترك النبي عليه الصلاة والسلام لهلك هو أيضاً بخلاف العبد والسيد.
الفائدة الثانية: أن قوله تعالى: {لاَ تَرْفَعُواْ أصواتكم} لما كان من جنس {لا تَجْهَرُواْ} لم يستأنف النداء، ولما كان هو يخالف التقدم لكون أحدهما فعلاً والآخر قولاً استأنف كما في قول لقمان {يا بني لا تشرك} [لقمان: 13] وقوله: {يا بني أقم الصلاةَ} [لقمان: 17] لكون الأول من عمل القلب والثاني من عمل الجوارح، وقوله: {يابُنَيَّ أَقِمِ الصلاة وَأْمُرْ بالمعروف وانه عَنِ المنكر} من غير استئناف النداء لأن الكل من عمل الجوارح.
واعلم أنا إن قلنا المراد من قوله: {لاَ تَرْفَعُواْ أصواتكم} أي لا تكثروا الكلام فقوله: {وَلاَ تَجْهَرُواْ} يكون مجازاً عن الإتيان بالكلام عن النبي صلى الله عليه وسلم بقدر ما يؤتى به عند غيره، أي لا تكثروا وقللوا غاية التقليل، وكذلك إن قلنا المراد بالرفع الخطاب فالمراد بقوله: {لا تَجْهَرُواْ} أي لا تخاطبوه كما تخاطبون غيره وقوله تعالى: {أَن تَحْبَطَ أعمالكم} فيه وجهان مشهوران: أحدهما: لئلا تحبط والثاني: كراهة أن تحبط، وقد ذكرنا ذلك في قوله تعالى: {يُبَيّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ} [النساء: 176] وأمثاله، ويحتمل هاهنا وجهاً آخر وهو أن يقال معناه: واتقوا الله واجتنبوا أن تحبط أعمالكم، والدليل على هذا أن الإضمار لما لم يكن منه بد فما دل عليه الكلام الذي هو فيه أولى أن يضمر والأمر بالتقوى قد سبق في قوله تعالى: {واتقوا} [الحجرات: 1] وأما المعنى فنقول قوله: {أَن تَحْبَطَ} إشارة إلى أنكم إن رفعتم أصوتكم وتقدمتكم تتمكن منكم هذه الرذائل وتؤدي إلى الاستحقار، وإنه يفضي إلى الانفراد والارتداد المحبط وقوله تعالى: {وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ} إشارة إلى أن الردة تتمكن من النفس بحيث لا يشعر الإنسان، فإن من ارتكب ذنباً لم يرتكبه في عمره تراه نادماً غاية الندامة خائفاً غاية الخوف فإذا ارتكبه مراراً يقل الخوف والندامة ويصير عادة من حيث لا يعلم أنه لا يتمكن، وهذا التمكن كان في المرة الأولى أو الثانية أو الثالثة أو غيرها، وهذا كما أن من بلغه خبر فإنه لا يقطع بقول المخبر في المرة الأولى، فإذا تكرر عليه ذلك وبلغ حد التواتر يحصل له اليقين ويتمكن الاعتقاد، ولا يدري متى كان ذلك، وعند أي خبر حصل هذا اليقين، فقوله: {وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ} تأكيد للمنع أي لا تقولوا بأن المرة الواحدة تعفي ولا توجب رده، لأن الأمر غير معلوم فاحسموا الباب، وفيه بيان آخر وهو أن المكلف إذا لم يحترم النبي صلى الله عليه وسلم ويجعل نفسه مثله فيما يأتي به بناء على أمره يكون كما يأتي به بناء على أمر نفسه، لكن ما تأمر به النفس لا يوجب الثواب وهو محبط حابط، كذلك ما يأتي به بغير أمر النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ حابط محبط، والله أعلم.
واعلم أن الله تعالى لما أمر المؤمنين باحترام النبي صلى الله عليه وسلم وإكرامه وتقديمه على أنفسهم وعلى كل من خلقه الله تعالى أمر نبيه عليه السلام بالرأفة والرحمة، وأن يكون أرأف بهم من الوالد، كما قال: {واخفض جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر: 88] وقال تعالى: {واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم} [الكهف: 28] وقال: {وَلاَ تَكُن كصاحب الحوت} [القلم: 48] إلى غير ذلك لئلا تكون خدمته خدمة الجبارين الذين يستعبدون الأحرار بالقهر فيكون انقيادهم لوجه الله.


{إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)}
وفيه الحث على ما أرشدهم إليه من وجهين:
أحدهما: ظاهر لكل أحد وذلك في قوله تعالى: {امتحن الله قُلُوبَهُمْ للتقوى} وبيانه هو أن من يقدم نفسه ويرفع صوته يريد إكرام نفسه واحترام شخصه، فقال تعالى ترك هذا الاحترام يحصل به حقيقة الاحترام، وبالإعراض عن هذا الإكرام يكمل الإكرام، لأن به تتبين تقواكم، و{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أتقاكم} [الحجرات: 13] ومن القبيح أن يدخل الإنسان حماماً فيتخير لنفسه فيه منصباً ويفوت بسببه منصبه عند السلطان، ويعظم نفسه في الخلاء والمستراح وبسببه يهون في الجمع العظيم، وقوله تعالى: {امتحن الله قُلُوبَهُمْ للتقوى} فيه وجوه:
أحدها: امتحنها ليعلم منه التقوى فإن من يعظم واحداً من أبناء جنسه لكونه رسول مرسل يكون تعظيمه للمرسل أعظم وخوفه منه أقوى، وهذا كما في قوله تعالى: {وَمَن يُعَظّمْ شعائر الله فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القلوب} [الحج: 32] أي تعظيم أوامر الله من تقوى الله فكذلك تعظيم رسول الله من تقواه الثاني: امتحن أي علم وعرف، لأن الامتحان تعرف الشيء فيجوز استعماله في معناه، وعلى هذا فاللام تتعلق بمحذوف تقديره عرف الله قلوبهم صالحة، أي كائنة للتقوى، كما يقول القائل أنت لكذا أي صالح أو كائن الثالث: امتحن: أي أخلص يقال للذهب ممتحن، أي مخلص في النار وهذه الوجوه كلها مذكورة ويحتمل أن يقال معناه امتحنها للتقوى اللام للتعليل، وهو يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون تعليلاً يجري مجرى بيان السبب المتقدم، كما يقول القائل: جئتك لإكرامك لي أمس، أي صار ذلك الإكرام السابق سبب المجيء.
وثانيها: أن يكون تعليلاً يجري مجرى بيان غاية المقصود المتوقع الذي يكون لاحقاً لا سابقاً كما يقول القائل جئتك لأداء الواجب، فإن قلنا بالأول فتحقيقه هو أن الله علم ما في قلوبهم من تقواه، وامتحن قلوبهم للتقوى التي كانت فيها، ولولا أن قلوبهم كانت مملوءة من التقوى لما أمرهم بتعظيم رسوله وتقديم نبيه على أنفسهم، بل كان يقول لهم آمنوا برسولي ولا تؤذوه ولا تكذبوه، فإن الكافر أول ما يؤمن يؤمن بالاعتراف بكون النبي صلى الله عليه وسلم صادقاً، وبين من قيل له لا تستهزئ برسول الله ولا تكذبه ولا تؤذه، وبين من قيل له لا ترفع صوتك عنده ولا تجعل لنفسك وزناً بين يديه ولا تجهر بكلامك الصادق بين يديه، بون عظيم.
واعلم أن بقدر تقديمك للنبي عليه الصلاة والسلام على نفسك في الدنيا يكون تقديم النبي عليه الصلاة والسلام إياك في العقبى، فإنه لن يدخل أحد الجنة ما لم يدخل الله أمته المتقين الجنة، فإن قلنا بالثاني فتحقيقه هو أن الله تعالى امتحن قلوبهم بمعرفته ومعرفة رسوله بالتقوى، أي ليرزقهم الله التقوى التي هي حق التقاة، وهي التي لا تخشى مع خشية الله أحداً فتراه آمناً من كل مخيف لا يخاف في الدنيا بخساً، ولا يخاف في الآخرة نحساً، والناظر العاقل إذا علم أن بالخوف من السلطان يأمن جور الغلمان، وبتجنب الأراذل ينجو من بأس السلطان فيجعل خوف السلطان جنة فكذلك العالم لو أمعن النظر لعلم أن بخشية الله النجاة في الدارين وبالخوف من غيره الهلاك فيهما فيجعل خشية الله جنته التي يحس بها نفسه في الدنيا والآخرة.
ثم قال تعالى: {لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ}.
وقد ذكرنا أن المغفرة إزالة السيئات التي هي في الدنيا لازمة للنفس والأجر العظيم إشارة إلى الحياة التي هي بعد مفارقة الدنيا عن النفس، فيزيل الله عنه القبائح البهيمية ويلبسه المحاسن الملكية.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6